كانت تربطه بفضيلة الشيخ متولى الشعراوي رابطة قوية حتى أنه طلب إستدعائه قبل وفاته بساعات وأوصاه بالتشريفة فماذا كان يقصد بالتشريفة وكيف كانت علاقتهما وهل نفذ فضيلة الشيخ الشعراوي وصيته؟
لقد كان الحب بين الشيخ محمود البنا وفضيلة الشيخ الشعراوي قوية جداً وكانا دائماً يلتقيان ويتحادثان ويطيلان اللقاء والحديث وكان ذلك في بيتنا أو في بيت فضيلة الشيخ الشعراوي حتى أن المحاسب أحمد الشعراوي إبن الشيخ وكان زميلاً لي بالجامعة يقول لي لقد كان الشيخ البنا عندنا بالأمس وجلس مع والدي بالبلكونة وظلا يتحدثان طويلاً ولم أسمع منهما كلمة واحدة إلا أنه عند إنصراف الشيخ البنا سمعتهما يقولان لبعضهما أهو كله عند الله هذا من ناحية علاقتهما أما بخصوص التشريفة فقد طلب الشيخ البنا صبيحة يوم الجمعة وقبل وفاته بيوم واحد أن نبلغ الشيخ الشعراوي بأنه يريد رؤيته فقلنا له : إن الشيخ الشعراوي في محافظة البحر الأحمر يسجل حلقة حول خواطره في القرآن الكريم فقال : لقد عاد من البحر الأحمر فأرسلوا إليه فقمنا بالإتصال به فحضر إليه وبمجرد أن رآه فضيلة الشيخ الشعراوي يرقد على فراشه نظر إليه صامتاً ثم إنهار في البكاء وظل على هذا الحال إلى أن قال له الشيخ البنا : التشريفة يا شيخ متولي والشيخ الشعراوي لا يكف عن البكاء فقال له الشيخ البنا : مع السلامة يا شيخ متولي فأخذ الشيخ الشعراوي يقبله ويقبل يده ورأسه وإذا بالشيخ البنا يفعل كذلك ويقبل يد الشيخ الشعراوب ورأسه ويكرر عليه مع السلامة يا شيخ متولي فقال له فضيلة الشيخ الشعراوي متوسلاً : دعني أجلس معك قليلاً .. فقال له : لقد دنى الأجل مع السلامة يا شيخ متولي فرج الإمام وهو يجهش بالبكاء.. وبعدها مباشرة أخذت عيني الشيخ تحلق بالنظر إلى سقف الحجرة قائلاً : هذا قبري وهذا مسجدي وهذه جنازتي وهاهم الناس يبكون من أجلى وهاهو أخي يجلس في مكان كذا وكذا وأخذ يصف جنازته وتوفى رحمة الله عليه في اليوم التاي مباشرة ولما ذهبنا به إلى مسجد الإمام الحسين لنصلي عليه صلاة الجنازة وجدنا فضيلة الشيخ الشعراوي في إنتظارنا فصلى بنا الجنازة ثم توجه إلى أخي الأكبر قائلاً له : إني لم أذهب إلى بلدتكم شبرا باص منذ وفاة جدتك فإذا تأخرت بالطريق لسبب أو لآخر فلا تخرجوا بالتشريفة حتى أحضر إليكم فهذه وصية أبيك أن أحضر التشريفة .. فعلمنا أن القصد من التشريفة هو تشييع الجنازة .. وبالفعل حضر فضيلة الشيخ الشعراوي إلى البلدة وشيع جنازته ولقنه ودفنه ودعى له عند قبره وأمن الناس خلفه وختم دعائه له بقوله : اللهم أثبه خير ثواب عن كل حرف تلاه وعن كل من سمع حرفاً وعن كل ما أذيع له من القرآن الكريم.
كيف كان تكريم الدولة لعطاء الشيخ البنا بعد وفاته؟
كرمه الرئيس مبارك بمنحه وسام العلوم والفنون عام 1990م في الإحتفال بليلة القدر وتسلم الوسام أخي الأكبر المهندس شفيق البنا وكرمته محافظة سوهاج بإطلاق إسمه على القرى الجديدة بالمحافظة كذلك أطلقت محافظة الغربية إسمه على الشارع الرئيسي بجوار المسجد الإحمدي بمدينة طنطا كذلك أطلقت محافظة القاهرة إسمه على أحد شوارعها.
ممن تتكون أسرة الشيخ البنا؟
أنجب الشيخ سبعة أبناء خمسة ذكور وبنتين الأكبر هو المهندس شفيق البنا برئاسة الجمهورية ويليه المحاسب على البنا خبير كمبيوتر ثم محدثك المحاسب أحمد البنا وأعمل قارئاً للقرآن في الوقت الحالي ثم الدكتور محمد البنا وهو طبيب ثم شرف البنا ويعمل محاسباً والبنتان متزوجتان والحمدلله.
ولادته :
ولد القارىء الشيخ محمود علي البناء في قرية (( شبرا باص )) مركز شبين الكوم محافظة المنوفية يوم 17/12/1926م. ونشأ بين أحضان الطبيعة الريفية بما تحمل من مناظر طبيعية , وحياة تقليدية , وفطرة تسيطر على مجريات الأمور كلها , وكان لهذه الطبيعة الريفية الأثر الواضح في تكوين شخصية أفراد المجتمع الزراعي المكافح الحريص على حياة شريفة طاهرة عمادها الجهد والعرق والكفاح .. وكانت سعادة الوالد في رؤية ابن له يساعده في زراعته أو في تجارته ليكون له عوناً وسنداً وسلاماً وبرداً .. ولكن الحاج (( علي )) رحمه الله كان يفكر بطريقة خاصة تختلف عن حسابات أهل الريف .. فلقد نما إلى علمه الفطري أن أسهل الطرق وأقربها للوصول إلى الجنة تتمثل في طاعة الله والتي منها ولد صالح يدعو له . والصلاح الكامل وقمة القرب من الله ورسوله لا يكون ناجحاً إلا بتحصينه بالحصن المتين والزاد الذي لا ينقطع والنور الساطع , وهو القرآن الكريم . استشعر الحاج علي النعمة الكاملة من أول لحظة عندما رزق بمولود جميل يشبه أطفال الجنة , لأن العز والوجاهة ظهرت على المولود الصغير الذي اختراه الله لحفظ كتابه الكريم . ولأن قدوم الطفل كان محموادً حمداً لله وثناء عليه .. أطلق عليه أبوه اسماً من أسماء النبي (ص) التي هي في السماء فأسماه (( محمود )) بعد هذا الميلاد الذي أسعد الوالد حلت البركة على البيت وكثر الخير الذي تدفق على الأسرة .. وربما يكون هذا التدفق وهذه البركة كان مصدرها تفاؤل وأمل ودفعة جعلت النشاط والحيوية المحرك الذي أشعل روح الكفاح والجهد الوافر لدى رب الأسرة الحاج علي البنا. الذي لم يدخر جهداً ولم يبخل بشيء قد يساعد ابنه على حفظ القرآن الكريم , ليكون في مقدمة صفوف أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته (( إذا عملوا بالقرآن )) ولما بلغ الطفل (( الجميل )) محمود على البنا أشده واستوى ألحقه والده بكتاب (( الشيخ موسى )) رحمه الله . بقرية (( شبرا باص )) كان الشيخ موسى حريصاً كل الحرص على تلاميذه من حيث الحفظ والتجويد ولكنه كان شديد الحرص على نجم بزغ بين أقرانه وهو الطفل الموهوب محمود علي البنا , الذي ظهرت عليه علامات النبوغ وسمات أهل القرآن وخاصة مخارج الألفاظ والدقة في النطق وهو في السادسة من عمره بالإضافة إلى الذكاء الشديد والإلتزام والدقة والرقة في التعامل مع كلمات القرآن مما جعل الشيخ موسى يتوسم النبوغ في تلميذه الموهوب .
يقول الشيخ محمود علي البنا في مذكراته عن مرحلة الطفولة والكتّاب :
(( كنت شديد الحرص على حفظ ما آخذه كل يوم بالكتاب أسهر الليل كله ولا أنام إلا بعد ما أحفظ اللوح الذي سأقوم بتسميعه على سيدنا في اليوم التالي .. وبعد الحفظ أراجع اللوح السابق الذي حفظته قبل ذلك حتى أقوم بتسميع اللوحين معاً ليتواصل القرآن بالقرآن تواصلاً محكماً .. وأذكر أن شيخي ضربني علقه ما زلت أذكرها ولن تغيب عن خيالي ما دمت حياً. وكانت علقة بدون أي تقصير مني في التسميع والحفظ . ولما عدت للبيت بكيت بكاءً شديداً وقلت لوالتدي لقد ضربني سيدنا ضرباً شديداً مع أنني سمّعت له اللوح .. فقالت : (( يا محمود الشيخ ضربك لأنني قلت له إنك ذهبت إلى الغيط لتشاهد جمع القطن وتلعب بجوار العاملين بجني القطن .. وأنا يا بني خفت إنك تتعود على كده وتبعد عن القرآن يقوم القرآن يبعد عنك .. يا بني أنا خايفه عليك وعلى مصلحتك ومستقبلك لأنك شكل أهل القرآن ولن تصلح إلا للقرآن .. القرآن جميل يا محمود وبيرفع صاحبه )) .. ولكنني لم أستوعب الدرس جيداً وفي اليوم التالي خفت من عقوبة سيدنا فتغيبت عن الكتّاب ولكنني فوجئت بالعريف وكان طوله يقرب من مترين يجرني بقوة من ذراعي إلى خارج البيت , فقلت له انتظر لما آخذ رغيف وحتة جبنة وألبس جزمتي .. فقال لا مفيش وقت .. فاستغربت لأن أحداً من البيت لم يتحرك لتخليصي من العريف .. فعلمت أن هناك اتفاقاً بين الأسرة وبين سيدنا , والذي على أساسه جاء العريف يجرني إلى الكتّاب . وأول ما دخلت على سيدنا فوجئت بأنه أمطرني ضرباً في كل مكان من أنحاء جسدي على يدي ورجلي ورأسي وظهري فعرفت أنه متوصى وبعدها صالحني سيدنا ووجه إلي بعض النصائح ووعدني بعدم الضرب ووعدته بالمواظبة والحفظ وعدم التغيب عنا لكتاب )) .
يقول الشيخ محمود علي البنا :
(( ... وذهب والدي إلى مدينة شبين الكوم ليقدم لي طلب إلتحاق بمعهد شبين الكوم الديني الأزهري ولكن أحد أصدقاء والدي رحمه الله أشار عليه بالذهاب إلى معهد المنشاوي بطنطا الذي يقبل حفظة القرآن مباشرة .. فذهب بي والدي إلى طنطا والتحقت بمعهد المنشاوي , وكنت صغيراً جداً .. ولكن الذي شجعني على البقاء بطنطا .. إلتفاف الكثير من الناس حولي لسماع صوتي وأنا أقلد الشيخ محمد رفعت رحمه الله .. وكانت توجه إلي الدعوات للقراءة في المناسبات أحياناً بالمسجد الأحمدي .. وعرفت وقتها بالطفل ا لمعجزة لأنني كنت ماهراً في تقليد أصحاب المدارس الراقية في تلاوة القرآن ولما كان يطلب مني تقليد الأساتذة العمالقة أمثال الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد سلامة والشيخ عبدالفتاح الشعشاعي والشيخ محمد السعودي .. لم أتردد وإنما أكون سعيداً جداً ويشجعني المستمعون بالمئات فيزداد الإبداع وأتمكن من الأداء بقوة وأنا في الثانية عشرة من عمري .
يقول الشيخ محمود علي البنا :
(( أهم شيء في القارىء أن يكون حافظاً ومجوداً للقرآن الكريم بإتقان وتمكن . وأن يكون صوته جميلاً ولديه ملكة التقليد . لأنه يقلد فلاناً وفلاناً من أصحاب المدارس المشهورة والمؤثرة في قلب المستمع مباشرة . وفي النهاية تكون شخصيته هي الواضحة بصوته وأدائه المتميز عندما تسمعه تقول هذا فلان . ولا بد أن يلتحق بمدرسة قرآنية يعشقها هو . ويميل إليها قلبه فيسمع أستاتذته من المدرسة التي يرغبها ويتمشى معها صوته وأداؤه وإمكاناته. وبعد فترة يستقل بشخصيته التي عندما يسمعها المستمع يقول : هذا فلان . وأنا لا أؤيد التقليد المطلق. ولكن يجب أن تظهر شخصية القارىء في النهاية