- ضوء القمر كتب:
- متابعة لموضوع الفقه في الاسلام.......
وحتى لو أنَّ النبي قاس أو اجتهد فلا بد أن يتحول هذا الاجتهاد إلى نص. وتفصيل ذلك أنه إذا اجتهد رسول الإسلام في مسألة فإما أن يقره الله عليها فتصبح نصاً حينئذ ، أو أن يصوب الله له فيكون نصاً أيضاً.
.
الأخ الكريم ضوء القمر بارك الله فيك ووفقك الله لحمل دعوته والعمل لدينه ، أما ما ذكرت في النص أعلاه فإن الرسول صلى الله عليه وعلى أله أجمعين لم يكن مجتهداً ، ولا يجوز في حق الرسول أن يكون مجتهداً ، وإليك البيان :
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد قط ، ولا يجوز الاجتهاد على الرسول شرعاً وعقلاً . أما شرعاً فللآيات الصريحة التي تدل على حصر جميع ما ينطق به وما ينذر به وما يتبعه بالوحي { قل إنما أنذركم بالوحي } ، { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } ، { وما ينطق عن الهوى } . وأما عقلاً فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام مع الحاجة الماسة لبيان حكم الله ، فلو جاز له الاجتهاد لما أخر الحكم بل يجتهد ، وبما أنه ثبت أنه كان يؤخر الحكم حتى ينزل الوحي فدل على أنه لا يجوز له الاجتهاد ولم يجتهد . وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم واجب الإتباع فلو اجتهد لجاز عليه الخطأ ، ولو أخطأ وجب علينا إتباعه ، فيلزم الأمر بإتباع الخطأ وهو باطل . وجواز الخطأ على الرسول ينافي الرسالة والنبوة ، فالإقرار بالرسالة والنبوة يحتم عدم جواز الخطأ على الرسول والنبي ، ويحتم استحالة الخطأ عليه فيما يبلغه عن الله . وعليه فلا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مطلقاً ، وكل ما بلغه من الأحكام بقوله أو فعله أو سكوته وحي من الله ليس غير . ولا يقال أن الله لا يقره على الخطأ وأنه يبينه له سريعاً لأن الخطأ في الاجتهاد حين يحصل من الرسول يصبح فرضاً على المسلمين أن يتبعوه حتى يحصل البيان ، فيكون هذا البيان جدد حكماً آخر غير الأول أمر المسلمون بإتباعه وبترك الحكم الأول وهو الخطأ ، وهذا باطل ولا يجوز في حق الله تعالى ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم .
على أنه لم يحصل من الرسول اجتهاد فيما بلغه عن الله تعالى في أي حكم من أحكام الله مطلقاً ، بل الثابت بنص القرآن وبصحيح السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ عن الوحي ، ولا يبلغ عن غير طريق الوحي . وأنه كان حين لا ينزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينزل بها . وأما الآيات التي أوردوها و أوردوا أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد بها مثل قوله تعالى :{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ومثل قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ومثل قوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره } ، ومثل هذا من الآيات والأحاديث ، فإن ذلك لم يكن من قبيل الاجتهاد في حكم وتبليغه للناس ، ثم الرجوع عنه وتصحيحه في حكم آخر ، وإنما هو من قبيل العتاب على القيام بأعمال . إذ لم يبلغ الرسول حكماً معيناً ثم جاءت الآية تبين خطأ الحكم الأول الذي بلغه وأخطأ اجتهاده فيه ، وإنما قام الرسول بعمل تطبيقاً لأحكام الله التي نزل بها الوحي وبلغها للناس . فالحكم كان مشرعاً وكان مأموراً به وكان الرسول قد بلغه . وفي هذه الحادثة قام الرسول عليه الصلاة والسلام بالعمل حسب ما أمره الله تعالى ، إلا أن قيامه به كان على وجه خلاف الأولى فعوتب على ذلك عتاباً . فالآيات آيات عتاب على قيام الرسول بما هو خلاف الأولى وليس تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم آخر يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه ، ومنطوق الآيات ومفهومها يدل على ذلك . فإن قوله تعالى :{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } يدل على أن الأسر كان مشروعاً بشرط سبق الإثخان في الأرض ، ويؤيده آية { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد . ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً حتى سحقوا عدوهم سحقاً ، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس ثم أنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة . والآية نفسها تدل على أنه بعد الإثخان يجوز الأسر ، فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزاً بحكم هذه الآية فلا يكون الرسول قد اجتهد في حكم الأسرى ولا يكون الأسر في بدر ذنباً مخالفاً للحكم الذي نزلت به الآية ولكن يدل على أنه في تطبيق حكم الأسرى على هذه الحادثة كان الأولى أن يكون القتل أكثر حتى يكون الإثخان أبرز فنزلت الآية معاتبة على التطبيق على وجه خلاف الأولى ، أي آية عتاب على فعل من أفعال الرسول في حادثة معروف حكمها فعله مخالفاً ما هو الأولى بالفعل ، فهو عتاب على خلاف الأولى . والأنبياء ليسوا معصومين عن فعل خلاف الأولى فيجوز في حقهم أن يفعلوه وحين يفعلونه يعاتبهم الله عليه ، فهذا عتاب للرسول .
وأما قوله تعالى :{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } فإنها لا تدل على أي اجتهاد ، فإنه يجوز للرسول أن يأذن به بدليل قوله تعالى في سورة النور : { فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } فهي صريحة وتدل على أنه يجوز للرسول أن يأذن لهم ولكن في تلك الحادثة وهي غزوة تبوك وتجهيز جيش العسرة كان الأولى أن لا يأذن الرسول للمنافقين في التخلف فلما أذن لهم في تلك الحادثة بالذات عاتبه الله على ذلك ، أي عاتبه على القيام بخلاف الأولى ، وليست الآية تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه في نفس الحادثة ، وإنما هو عتاب على ما هو خلاف الأولى .
وأما قوله تعالى :{ ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } فإنها جاءت بعد قوله تعالى :{ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً } الآية . وقد بين في آية { فإن رجعك الله } أن لا يصحبهم الرسول في غزواته وذلك لتخذيلهم وإخافتهم . وبين في الآية التي بعدها وهي { ولا تصل على أحد منهم } الآية ، شيئاً آخر في إذلالهم . وكان ذلك أثناء الحملة على المنافقين للقضاء عليهم ، وليس في الآية ما يدل على أن الرسول اجتهد في حكم وجاءت الآية دالة على خلافه بل هي تشريع ابتداء في حق المنافقين وهي منسجمة مع آيات المنافقين المكررة في نفس السورة ، فلا يظهر فيها لا صراحة ولا دلالة ولا منطوقاً ولا مفهوماً أنها تصحيح لاجتهاد وتنبيه على الخطأ . وهي نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد تبوك حين حج أبو بكر بالناس . وأما ما ورد في شأن نزول هذه الآية والآيات السابقة من أخبار عن سبب النزول وعن حوادثها فإن كثيراً من هذه الأخبار لم يصح ، وما صح منها من أحاديث عن سبب النزول فهي أخبار آحاد ظنية ولا تعارض القطعي الذي يحصر تبليغ الرسول للأحكام بالوحي فحسب وأنه لا يتبع إلا الوحي ولا ينطق إلا بالوحي . { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } .
وعلى ذلك لا دلالة في الآيات المذكورة على حصول الاجتهاد من الرسول ، فليس فيها تشريع لحكم جديد ولا تصحيح لحكم قديم وإنما فيها عتاب للرسول على أفعال قام بها وكان حكمها معروفاً بالوحي قبل قيامه بها صلى الله عليه وعلى أله ، وكون الرسول مجتهداً أو يجوز عليه الاجتهاد ممنوع عقلاً وشرعاً ، فلا يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتهاد فيما يبلغه عن ربه من أحكام سواء أكان التبليغ بالقول أو السكوت أو الفعل ، لأن الآيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة على أنه لا ينطق ولا يتبع ولا ينذر إلا بالوحي . ومن هنا كان من غير الجائز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الرسل أن يخطئوا فيما يبلغونه عن الله سواء أكان الخطأ عن اجتهاد أو نسيان أو تعمد لأنه ينافي العصمة الواجبة في حقهم عليهم الصلاة والسلام .
اللهم اعنا على حمل دعوتك ، وارزقنا الاخلاص في القول والعمل ، اللهم أمين .